إن السعادة هبة من الله يمنحها ممن يشاء ويسلبها من يشاء، ولله في حكمه شؤون.
ولو كانت السعادة تصنع ما بقي شقي على ظهر الوجود، فما من إنسان في هذه الدنيا الواسعة إلا ويسره أن يضحي بنصف عمره إذا ضمن السعادة في نصفه الآخر، ولو كانت السعادة في أقاصي المعمورة ما توانینا عن المسير إليها، ولو اقتضی منا ذلك أن نسير فوق النيران والأشواك.
إن السعادة أرقى مراتب الحياة، وهي الهدف المنشود الذي نسعى إلى تحقيقه راغبين طامعين، سواء أكنا ملوك جبابرة، أم سوق أذلاء، وهي الأمل الذي يسوقنا إلى الخير أو الشر.
والسعادة في البيت - کالسعادة في مختلف نواحي الحياة - مرتبة معنوية تصنعها المشيئة الربانية، وتحرك الأقدار فيها أصابعها، وتترك طابعها، ولكن بيدنا أن نعبد طريقنا إليها، ونحوط أنفسنا بالأجواء الملائمة لها، حتى نجد في حياتنا البيئة الصالحة التي تجذبنا إليها، وتغرينا بها.
والذي لا شك فيه أن السعادة تزور البيت مرة على الأقل، فإن وجدت الجو ملائما بقيت فيه، وإن وجدته مجافي تولت عنه مدبرة، والحكيم من انتهز الفرصة السانحة وتأهب لها بتوفير العوامل الرئيسة في خلق البيت السعيد.
وهذه العوامل میسورة لمن يريد مخلصا - أن يكون سعيدا، وفي مقدورنا أن نصنعها في بيوتنا، فنكون بذلك قد كسبنا نصف المعركة، وهو جهاد مشکور قلما يضيع هباء، فإن الله في عون المرء ما دام المرء في عون نفسه.
إن المحبة أهم عامل في تهيئة البيت السعيد، ولسنا نقصد بها ذلك الشعور الأهوج الذي يلتهب وينطفئ فجأة، فإنه نداء الغريزة القائمة على إرضاء مطالب بحياة شعور الجسد لا الروح، وكثيرا ما تختلط الشهوة بالمحبة على ما بينهما من بون شاسع، ولذلك نخفق في بلوغ السعادة المنتقاة، ولن نبلغها حتى نميز بين هذه وتلك، ونؤمن بأن لهفة الجسد تزول بعد وقت قصير، والبقاء من بعدها للمعنويات الكريمة.
والمحبة التي نقصدها : هي التوافق الروحي، والامتزاج الشعوري، أو ذلك الإحساس الصافي النبيل الذي يرتقي بصاحبه فوق مستوى الفردية، فيربط حياته به، ويبذل من نفسه كثير ؛ ليمن الآخر من بلوغها، وهي بهذه العين السحرية التي تحول المدركات رؤى جميلة، فتذلل الصعاب، وتهون المشاق، وتعين النظر على احتمال الآلام في سبيل سعادة جميع أفراد الأسرة، ثم إن اللون الخالص منها هادئ يتولد بالثقة الكاملة، ويقوم بالاطمئنان إلى وفرة الصفات الأدبية والمحبة الصادقة، ويرتقي بالزوجة ويسمو بها، لكي تكون أمينة على العرض والنفس والفكر والمال والبنين. وقد تكون المحبة على وفرتها غاشمة، فتتحطم على صخرة الحياة الخشنة ذات النتوءات الحادة والحفر العميقة ؛ ولهذا لا يقوم البيت السعيد على المحبة وحدها، وإنما يلزمه أن يتبعها روح التسامح بين الزوجين، والتسامح لا يتأتی بغير تبادل حسن الظن والثقة، وتوافر الرغبة في الهدوء والسلام، مع القدرة على الحكم العادل المنزه عن الأغراض والأهواء.
وقد توقق كثيرا في بيوتنا إذا آمنا بأننا بشر، والبشر عرضة للخطأ، فليس مستغربة أن يتنكب أحد الزوجين طريق الصواب في قول أو فعل، إنما الغريب حقا أن يتبين خطأه فلا يعترف به، أو يعمل على إصلاحه، والغريب أيضا أن يضيق صدر الآخر بالأخطاء فيراكمها في نفسه، ويبني منها على مر الأيام برکانا لا يلبث أن ينفجر، فيودي بهدوء البيت واستقراره وسوف تكون السعادة من نصيب من يعرفون أن الحياة كتاب ضخم، الصفحة فيه يوم قائم بذاته، فعليهم أن يفتحوا كل صباح صفحة جديدة منه، بيضاء في رغباتها وأهدافها، نقية من شوائب سابقاتها، وليس أجمل من أن يروضوا أنفسهم على التخلص من متاعبها أولا فأول، حتى لا يدعوا للهموم سبيلا إلى تعكير مرحلة جديدة من الحياة، وحتى يمنحوا أنفسهم فرصا متجددة للسعادة والاستقرار النفسي.
والتعاون عامل رئيس في تهيئة البيت السعيد، وبغيره تضعف قيم المحبة والتسامح، فإن الأحكام العقل والمادة أثرها في تسهيل مهام الأسرة أو تعقيدها.
ورسالة التعاون السامية لاتكتمل إلا إذا كان متباد " ؛ حتى يشعر كل من الزوجين أنه ليس رئيس وحده، أو حاکم مطلقا، وإنما هو مجرد شريك، فإن أراد أن يصل بمصالحه إلى بر الأمان، فعليه أن يعطي بقدر ما يأخذ، ولا يطلب فوق ما يستحق.
والتعاون لونان : أدبي ومادي.
أما التعاون الأدبي فيتمثل في حسن الزوجين لحل ما يعرض من مشكلات، وفي حرصهما على الوصول إلى نتيجة مرضية، وأن يكون كل منهما - مع ذلك - سندا وعونا لصاحبه، فمعظم الشقاء ينشأ عن عدم تقدير أحد الزوجين المتاعب الآخر، أو ميله إلى نيل حقوقه على حسابه، ونضرب بالأولاد مثلا، إنهم ليسوا ملكا لأمهم، وليسوا ملكا لأبيهم، وإنما هم نتاج حياتهما معا، فالتبعة مشتركة متبادلة، وعلى المرأة أن تضطلع بنصيبها منها، وعلى الرجل أن ينهض بنصيبه في غير تواكل، أو تعصب، أو أثرة، أو كبرياء كاذبة. وأما التعاون المادي فيتمثل في العمل على حفظ كيان الأسرة الاقتصادي، ومهمة الرجل أن يكد ويكدح، ثم يضع حصاد ذلك رهن إشارة أسرته راضية مختارة، ومهمة المرأة أن توفق بين رزق زوجها و مطالب مملكتها، فتضيق من دائرة ما تنفق بما يلائم الدخل، وتستغني عن الكماليات إذا لم تسمح بها موارد البيت.
وأهم من هذا وذاك، أن تخوض معترك الحياة عاملة مجدة ما دامت حالة الأسرة معسرة، وبيدها أن تیسرها، فنحن نعيش في زمن يقوم على تبادل النفع والانتفاع، وعلى كل من الزوجين أن يسهم بنصيبه من الجهاد في معركة الرزق.
ولسنا نستطيع أن نعدد العوامل الرئيسة في تهيئة البيت السعيد دون أن نذكر العة بإجلال وخشوع، فإنها الحياة، ودعامة الخير في صلات الإنسان ومعاملاته.
والعفة الحقة تشمل : اللفظ والفكر والفعل، لتحفظ اللسان.
وتقي الذهن من الانحلال، وتقف من تصرفات المرء رقيب أمين، يطرد عنها الشر
تعليقات
إرسال تعليق