أعلم فيما أعهده من تجاربي أنني قد أقرأ كتبا كثيرة لا أقصد الكتابة في موضوعاتها على الإطلاق ، وأذكر من ذلك أن أدیبا زارني ، فوجد على مكتبي بعض المجلدات في غرائز الحشرات ، فقال مستغربا : مالك أنت والحشرات ؟ .. إنك تكتب في الأدب وما إليه ، فأية علاقة للحشرات بالشعر ، والنقد ، والاجتماع ؟ ! الحقيقة - كما قلت مرارة – أن في الأحياء الدنيا من أسرار الخلق والتكوين التي تتراءى فيها وحدانية الخالق وبديع صنعه ما لا نجده في غيرها من الأحياء الأخرى . فإذا اطلع القارئ على كتاب في الحشرات ، فليس من اللازم اللازب أن يطلع عليه ليكتب في موضوعه ، ولكنه يطلع عليه لينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى ، ويعرف من ثم كيف نشأ هذا الإحساس ، أو ذاك الإحساس ، فيقترب بذلك من صدق الحس وصدق التعبير ، ولو في غير هذا الموضوع . كذلك لا أحب أن أجيب عن السؤال كما أجاب قارئ التاريخ في البيت المشهور : ومن وعي التاريخ في صدره أضاف أعمارة إلى عمره فليست إضافة أعمار إلى العمر بالشيء المهم إلا على اعتبار واحد ، وهو أن يكون العمر المضاف مقدار من الحياة لا مقدار من السنين ، أو مقدار من مادة الحس والفكر والخيال ، لا مقدار من أخبار الوقائع وعدد السنين التي وقعت فيها . فإن ساعة الحس والفكر والخيال تساوي مائة سنة ، أو مئات من السنين ، ليس فيها إلا أنها شريط تسجيل لطائفة من الأخبار وطائفة من الأرقام . ، لست أهوى القراءة لأكتب ، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرا في تقدير الحساب ، وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا ، وحياة واحدة لا تكفيني ، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة . والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد ؛ لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق ، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب فكرتك أنت فكرة واحدة . شعورك أنت شعور واحد . خيالك أنت خيال فرد إذا قصرته عليك . ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى ، أو لاقيت بشعورك شعورا آخر ، أو لاقيت بخيالك خيال غيرك ، فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين ، أو أن الشعور يصبح شعورين ، أو أن الخيال يصبح خيالين . کلا ، وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الفكر في القوة والعمق والامتداد . والمثل على ذلك ، محسوس في عالم الحس والمشاهدة ، ومحسوس في عالم العطف والشعور . ففي عالم المشاهدة يجلس المرء بين مرآتين ، فلا يرى إنسانا واحد أو إنسانين اثنين ، ولكنه يرى عشرات متلاحقين في نظره إلى غاية ما يبلغه النظر في كل اتجاه . وفي عالم العطف والشعور نبحث عن أقوى عاطفة تحتويها نفس الإنسان ، فإذا عاطفة الحب المتبادل بين قلبين .. لماذا ؟ لأنهما لا يحان بالشيء الواحد كما يحس به سائر الناس .. لا یحسان به شيئا ولا شيئين ، وإنما يحان به أضعافا مضاعفة لا تزال تتجاوب وتنمو مع التجاوب إلى غاية ما تتسع له نفوس الأحياء .
وهكذا يصنع التقاء مرآتين ، وهكذا يصنع التقاء قلبين .. فكيف بالتقاء العشرات من المائي النفسية في نطاق واحد ؟! وكيف بالتقاء العشرات من الضمائر والأفكار ؟ ! إن الفكرة الواحدة جدول منفصل . أما الأفكار المتلاقية فهي المحيط الذي تتجمع فيه الجداول جميعا ، والفرق بينهما وبين الفكرة المنفصلة كالفرق بين الأفق الواسع والتيار الجارف ، وبين الشط الضيق والموج المحصور . وقد تختلف الموضوعات ظاهرة ، أو على حسب العناوين المصطلح عليها ، ولكنك إذا رددتها إلى هذا الأصل كان أبعد الموضوعات كأقرب الموضوعات من وراء العناوين . أين غرائز الحشرات مثلا ثقافات الأديان ؟ وأين ثقافات الأديان من قصيدة غزل وقصيدة هجاء ؟ وأين هذه القصيدة أو تلك من تاريخ نهضة أو ثورة ؟ وأين ترجمة فرد من تاريخ أمة ؟ ظاهر الأمر أنها موضوعات تفترق فيما بينها افتراق الشرق من الغرب ، والشمال من الجنوب ، وحقيقة الأمر أنها كلها ماده حياة ، وكلها جداول تنبثق من ينبوع واحد وتعود إليه . غرائز الحشرات بحث في أوائل الحياة . وثقافات الأديان بحث في الحياة الخالدة الأبدية . وقصيدة الغزل أو قصيدة الهجاء قبسان من حياة إنسان في حالي الحب والنقمة . ونهضة الأم أو ثورتها هما جيشان الحياة في نفوس الملايين ، وسيرة الفرد العظيم معرض الحياة إنسان ممتاز بين سائر الناس . وكلها أمواج تتلاقى في بحر واحد ، وتخرج بنا من الجداول إلى المحيط الكبير .
ولم أكن أعرف حين هویت القراءة أنني أبحث عن هذا كله ، أو أن هذه الهواية تصدر من هذه الرغبة ، ولكنني هويتها ، ونظرت في موضوعات ما أقرأ فلم أجد بينها من صلة غير هذه الصلة الجامعة ، وهي التي تتقارب بها القراءة عن فراشة ، والقراءة عن المعري وشكسبير . لا أحب القراءة لأنني زاهد في الحياة ، ولكنني أحب القراءة لأن حياة واحدة لا تكفيني . ومهما يأكل الإنسان ، فإنه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة ، ومهما يلبس فإنه لن يلبس على غير جسد واحد ، ومهما يتنقل في البلاد فإنه لا يستطيع أن يحل مکانين ، ولكنه بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد ، ويستطيع أن يضاعف فكره وشعوره وخياله كما يتضاعف الشعور بالحب المتبادل ، وتتضاعف الصورة بين مرآتين .
تعليقات
إرسال تعليق