كان الوقت صيف عندما دخلتها لأول مرة طفلا في السادسة وعلى ظهر أحد الجمال التي تحمل – بالإضافة إلى أفراد الأسرة - أثاث المنزل القروي من فرش وسجاجيد محلية مصنوعة من صوف الماعز ، لم يكن الطفل الذي يومئذ يعي معنى الفصول ، أو يدرك أسماءها ، لكنه يتذكر الآن أن البطيخ بقشرته الخضراء وجوفه الأحمر الذي لم يسبق أن رآه أو ذاقه في قريته - كان أول فاكهة قدمت للعائلة القادمة من الريف ، وهي - في ذلك الحين – فاكهة صيفية قبل أن تنتشر وسائل المواصلات ، وتستقبل العاصمة منتجات المحافظات ذات المناخات المختلفة . الإشارة تستدعي القول أن صنعاء - رغم تمايز فصولها الأربعة - ذات مناخ معتدل جمیل ، تقترب درجة حرارة الشمس في نهارها الشتوي من درجة حرارتها في الصيف ، وربما تقل صيفا بسبب الغيوم والأمطار التي تهطل كثيرا في شهور الصيف . إن المدقق في جغرافية المكان يلحظ أن صنعاء تقع في محيط هو الأعلى في كل الجزيرة العربية ، كما أنها مبنية على هضبة ترتفع عن الوديان التي تحيط بها ، وأن الزائر عندما يدخلها من أي الجهات يشعر أنه يعلو لا سيما حين يكون قادما من جهة الجنوب ، ولا يصل إليها إلا بعد أن يتسلق الجبال والآكام ، و متى دخلها يشعر أنه اقترب من السماء ، وأن في إمكانه إذا ما صعد أحد الجبال المحيطة بها أن يلمس السماء بيده . وأزعم أن كل ما في اللغة من مفردات وما في الكتب من عبارات لا تستطيع أن ترسم أبعاد الدهشة التي تملكتني عند رؤية صنعاء عن قرب ، وهي مغمورة بشمس الظهيرة وما يتدفق على واجهات المنازل من كميات الضوء . لحظتها كانت المآذن المستقيمة البيضاء ، ونوافذ البيوت المطلية بجص يشبه الفضة في أزهى حال من التوهج واللمعان.
لن أتكلم كثيرا عن صنعاء الحديثة ، المدينة التي أكلت الحقول والضواحي المحيطة بها ، والتي لا تزال تتمدد وتترهل ، بل سأكتفي بالكلام عن صنعاء القديمة الصغيرة النائمة خلف سورها الطيني العتيق ، و ، والمحمية ب ( غيمان ) ، الجبل المطل عليها من الشرق الذي اعتدى الأحباش على اسمه القديم ، واختاروا له اسما آخر هو نقم ، وإذا كنا لا نمتلك من الشواهد ما يكفي لإثبات التسمية القديمة غيمان ، فإن الدليل التاريخي الوحيد أن الأحباش هم الذين أطلقوا عليه اسمه الحالي ؛ انتقاما منه . فقد كانت كهوفه مأوى للمقاومة الوطنية التي أرهقت ذلك الاحتلال . وتحيط بصنعاء سلسلة من الجبال العالية والمنخفضة ، لكن نقمة أو غيمان يظل أبرزها وأهمها بوصفه الحارس التاريخي الذي يحتوي صنعاء من جهة الشرق ، ويبدو في مكانه بعد أن تجعدت ملامحه کشيخ عجوز يحنو على أبنائه وأحفاده ، ويدفع عنهم غائلة كل الغزاة وأطماع المعتدين . بعد أيام من استقرار العائلة في منزل صنعاني لا تختلف موا. صفاته عن المنازل الأخرى التي يقف إلى جوارها ، أو يتداخل معها في اصطفاف أو تلاصق فريد ، بدأ شغف غامض يقودني يوميا إلى سطح هذا المنزل كلما جاء ضيوف ، أو انشغل أفراد العائلة بشؤونهم الخاصة لأمارس دهشتي الطفولية ، يشدني منظر المآذن و سطوح بعض البيوت العالية ، وتثيرني الجبال المحيطة بالمدينة من قرب أو من بعد . لم يكن صعودي إلى السطح يرتبط بوقت معين . وإن كان وقت الظهيرة المشبع بالضوء هو الوقت الأكثر إثارة ، كما أن الوقت الغروب أيضا إثارته الخاصة عندما يبدأ اللون البنفسجي يلف المدينة ، وتبدأ السحب البيضاء تأوي إلى ما وراء الجبال . وفي زمن لاحق ، حين اكتمل الوعي بجمال المكان وبهاء العمارة ، وأخذ الشعر يقود الشعور الإحساس ببساطة صنعاء وعمق جمالها ، اختزنت الذاكرة والبصر ما تزخر به المدينة من شواخص ثرية ، فهنا حفرة ( القليس ) التي يقال : إنها بقايا الكنيسة التي بناها أبرهة ، وهنا مسجد ( أروى ) الذي يعود تاريخه إلى العام السادس الهجري الموافق ۹۲۷ م . وهناك الحمامات التي تسمى بالتركية وهي عربية الأصل ، ولا تزال تلك مستخدمة ، فيها أيام خاصة للرجال وأخرى للنساء وكلما ضاقت أزقة صنعاء القديمة انبثقت ساحة واسعة مخططة بحساب لتخدم البيوت المحيطة بها ، بينما يطل عليك من وراء كل مجموعة من الأزقة بستان صغير يسمى ب ( المقامة ) يسقى من مياه المسجد ، ويستفيد من زرعه الجميع . ولعل سحر الإضاءة في البيت الصنعاني يتجلى بشكل معاكس ، ففي النهار يستمتع الجالس داخل البيت بضوء ملون ته النوافذ المصممة بشكل هلالي ، وبقطع متعددة الألوان من الزجاج ، أما في الليل فيكون الضوء الساحر الملون تحت نظر المارة الذين يرون النوافذ من الخارج ، ومن العجيب أن النوافذ المخرمة ، أو المشربيات التي يستعمل بعضها كثلاجات طبيعية لتبريد الماء ) تستدق وتصغير حتى يكون بعضها مثل الشاقوص نافذة الكف لتنقية الهواء . حين أعود بذاكرتي إلى الماضي في محاولة لاسترجاع علاقتي بصنعاء تتراءى لي هذه المدينة من خلال ثلاث حالات من الدهشة ، الحالة الأولى : هي التي ارتبطت باللقاء الأول ، وقد تم الحديث عنها في القسم الأول من هذه المقالة ، أما الحالة الثانية : فكانت عند عودتي إليها في أواخر الخمسينيات بعد غياب دام سبعة أعوام ، وأذكر أنني رجعت إليها ذات مساء ، كانت نائمة تحت عباءة الليل ، وقد حال سورها الطيني بيني وبينها إلى ما بعد مطلع الفجر ، وانفتاح الأبواب التي كان قانون الخوف على المدينة وأهلها يقضي بإغلاقها من قبل الغروب إلى ما قبل الشروق - وفي هذه العودة انتعشت ذكريات الطفولة مجددا ، وخرجت من مخابئ الذاكرة ، ولما كنت قد بدأت كتابة الشعر ، فقد زادت علاقتي بالطبيعة وبالمدينة إعجابا وحميمية ، فاخترت رابية تقع في الجهة الشرقية من المدينة تسمى ( ظهر حمير ) لكي أستوعب من هناك منظر المدينة وما تحشده من جماليات المكان بأقسامه الثلاثة ، كما كان حتى منتصف الستينيات : القسم الأول ، وحيژه المكاني صنعاء القديمة بحاراتها ومساجدها وبساتينها وأسواقها ، والقسم الثاني يضم باب السبح وبئر العزب بحدائقه الواسعة ، وقصوره القليلة ، والقسم الثالث يشمل منطقة « القاع » التي كانت تتألف من الأحياء الخاصة باليهود قبل أن يرحلوا عن البلاد ، ويبيعوا منازلهم وممتلكاتهم كاملة . كنت وهي من أستطيع - من فوق تلك الرابية - أن أحدد أماكن الأبواب السبعة للمدينة ، وهي باب شعوب في الجزء الشمالي ، يقابله باب اليمن في الجزء الجنوبي ، ثم باب الشقاديف في وسط المدينة شمالا ، يقابله باب السبح جنوبا ، وباب الروم في الجزء الشمالي عند نهاية المدينة غربا ، يقابله باب البلقة جنوبا ، ثم باب « القاع » المفتوح على الجهة الغربية . وهناك باب آخر اسمه باب استران » ومعناه الباب المستور ، ويحسبه بعض الناس أنه من أبواب المدينة في حين أنه ليس كذلك ، ويقع في شرق المدينة ، و قلعة غمدان التي أصبحت في العهد العثماني قصرة للسلاح . وهذا الباب مغلق ، وخاص بالقلعة ، ولا يعد من أبواب المدينة ، ولم يفتح في تاريخ اليمن الحديث سوى مرة واحدة عندما اتخذ الإمام الشهيد عبد الله الوزير القلعة مقرا لحكمه الذي لم يدم سوى ثلاثة أسابيع . خليط الدهشة والحسرة - تعود إلى أواخر السبعينيات عندما رجعت من القاهرة بعد غياب دام اثني عشر عاما . كانت المدينة قد بدأت في الترهل ، إن لم تكن قد ترهلت فعلا ، ولأني اخترت الإقامة في حي « صدمني كل شيء فيه ، وحزنت أشد الحزن لانتشار بیوت الإسمنت وما تتركه من ملامح المدينة الهجين . لقد تبددت الصورة المرسومة في الذاكرة لصنعاء ، وتكسرت أمام عيني ، ولم يبق في هذه الأحياء الجديدة سوى شوارع مكتظة بالناس ، وهذه الشوارع في الوقت نفسه أسواق نافرة ومنفرة ؛ يجتمع فيها بائع الذهب والمجوهرات ببائع الفحم والأحذية ، وبائع العطور ببائع اللحم والسمك . أين هذا التنافر البغيض من صنعاء الذاكرة ، حيث الأسواق المستقلة البعيدة عن الأحياء السكنية ، وحيث يوجد سوق خاص لكل سلعة ؟! فهناك سوق للزبيب ، وسوق للفضة ، وسوق للقماش ، وآخر للعطارة ، وأسواق للحدادة ، والنجارة ، والصناعات الحرفية . إحساس فظيع بالتشويه الذي أصاب المدينة ، بيوت الإسمنت الباهتة بدلا عن البيوت التي تتعانق فيها الأحجار بالأجر . والبناء العشوائي يزحف تماما على الحدائق والبساتين بعد أن التهم كل الأراضي الزراعية ، التي كانت تحيط بالمدينة ، وتم القضاء نهائيا على الينابيع المائية التي كانت تسقي جزءا من المدينة ، وتخترقها متجهة إلى الضواحي الشمالية الغنية بالأشجار ، وخاصة أشجار الورد . لكن القوة المدمرة لم تكن قد اقتربت من المدينة القديمة ، من صنعاء الصغيرة ، وعندما ذهبت لزيارة منزلنا القديم وجدت الأحياء لم تتغير ، والأسواق كذلك ، وحتى الناس لا يزالون يعيشون في سكينة وهدوء ، يحبون بعضهم ، ويتعاطفون في السراء والضراء ، وهذا ماجعلني دائم الحنين إلى السير فيها ، والتنقل في أحيائها ، وكأنني أكتشفها لأول مرة . لقد تقادم الدهر بصنعاء القديمة ، لكنها لا تزال تقف في وجه الزمن حتى اليوم معمارها وجمالها الطبيعي ، تتحدى صنعاء الجديدة ، وتزهو بمنازلها التي كلما تصدعت أحجارها ، وبهت لون آجرها ، أو اختفى زادت جمالا ونقاء ، وزاد عدد عشاقها ، وتكاثرت أسراب السياح المفتونين بالطابع المعماري العريق ، والحالمين بفنادقها التقليدية المسماه بالسماسر ، ليذوقوا لحظات الراحة في مدينة لا يتسلل إليها الخوف وليس فيها مخابئ ولا حوار سرية كبعض المدن القديمة ، فهي واضحة شفافة ، مایکاد يختفي قنديل النهار ( الشمس ) حتى تضيء قناديلها الليلية الصغيرة التي تطل من وراء العقود الزجاجية الملونة ، فتبعث الراحة والأمن إلى نفوس المارة ، وهواة النزهة المسائية في شوارع لا تعرف الانكماش ، أو التمدد بفعل البرودة والحرارة . وحين توارب النساء النوافذ الخشبية صباحا ، تدخل الريح بنعومة عبر شقوق هذه النوافذ ، ويسترجع الناس صدى أغنيات كأنها قادمة من الماضي البعيد ، ويصغون إلى موسیقی مترعة بالشجن العميق ، وبقايا حكايات ترجع في أصولها إلى أقدم الأزمان . ومن المؤكد أنه ليس للجمال شكل ثابت متفق عليه ، ولا هيئة خاصة ، وإنما لكل إنسان ذوقه الخاص بتحديد أبعاد الجمال ، هكذا يقولون ، لكن الجمال الذي تتمتع به هذه المدينة يؤكد أن هناك قاسم مشترك تلتقي عنده نوامیس الحواس الحقيقية . وإذا كان لكل جمال أسراره الخاصة ، فإن البساطة هي سر جمال هذه المدينة البديعة التي تجمع بين سحر الواقع وجمال الأسطورة .
تعليقات
إرسال تعليق