القائمة الرئيسية

الصفحات

script data-ad-client="pub-7359341889449383" async src="https://pagead2.googlesyndication.com/ pagead/js/adsbygoogle.js">

من البطل ؟ لا تريد أن نستوحي جواب هذا السؤال من أقوال المؤرخين وعلماء النفس ورجال المعرفة والأدب ، وإنما نريد أن نستمع من أقوال العامة الذين يحسون البطولة ويؤمنون بها ولا يقرؤون الكتب أو يبحثون موضوعاتها ، فإذا سألت هؤلاء من البطل ؟ فيغلب أن تسمع منهم جوابا واحد هو أشيع الأجوبة وأخطؤها ، أو هو خطأ لأنه يصف لك البطولة ، من ناحية بارزة فيها كدأب العامة ومن لا يتكلفون النقد والمقابلة ، ثم هو يدع نواحيها الأخرى ومراميها فلا يلقي لها بالا ، ولا يظن أن لها البطولة و « تكوين » الأبطال ، ذلك الجواب الشائع الخطأ هو أن البطل من لا يخاف ، وفلان بطل عندهم أي أنه مقتحم هجام لا يبالي العواقب ولا يرتدع عند خطر ، وتلك الصفة الغالبة للبطولة في رأي الأكثرین . أما أن البطل شجاع فهذا صحيح لا غبار عليه ، وأما أنه لا يخاف فهنا موضع النظر والتأمل ؛ لأن الشجاعة ليست هي عدم الخوف وإنما هي التغلب على الخوف وليست هي نقيض العقل والحكمة وإنما هي نقيض الجين والضعف ، فرب رجل لا يبالي بالخطر يكون اقتحامه جهلا بالخطر وغفل عن العواقب ، وإنما الشجاعة الإنسانية التي تشرف هذا الإنسان وترفعه إلى مقام البطولة هي أن تعرف الخوف ، ثم تكون أنت أكبر منه وأقوى من أن تستكين له وتنكل عن قصدك لأجله ، فالبطل  يخاف ولكنه لا يستسلم لخوفه ، وربما كان في إقدامه ضرب من الخوف أعلى من هذا الذي يفهمه السواد كخوف الضمير ، أو خوف الصغير في نظر نفسه ، أو خوف العار على الأقل ، وهو ضرب نبيل شائع بين الناس أكثر من شيوع خوف الضمير ، أو خوف حساب الإنسان نفسه قد تسمع جوابا آخر عن سؤالك من سواد الناس وأشباه السواد ، فيقولون لك : يغلب منازليه ويقوى على خصومه ، ويكونون أيضا على صواب هذا الجواب من ناحية واحدة ، وعلى خطأ كثير من نواح عدة ؛ إذ البطل قد ينهزم كثيرا في ميدان جهاده ، بل هو قد يؤثر الهزيمة أحيانا على الظفر ؛ لأنه لا يحارب بكل سلاح ، ولا ينشد كل غاية ، وليس من النادر بين الأبطال من ماتوا مهزومين في عصرهم ، وغلبهم أناس دونهم في العظمة والبطولة ، أو ليسوا من العظمة والبطولة على شيء ؛ وكأي من هزيمة أشرف من نصر يجيء بذميم الوسائل وحقيرها ويكون محصورا موقوتا لا نفع فيه لأحد ولا أثر له بعد حينه ، ولعل الأصح هنا أن يقال إن البطل من يغلب نفسه ويقوى على شهواته ، لامن يغلب منازليه ويقوى على خصومه ، فإذا وقف البطل بين فتنة الطمع والغواية وفتنة الحرب والسطوة فخطر الأولى عليه أكبر من خطر الثانية ، وحاجته إلى البطولة التي يقمع بها قوة نفسه أعظم من حاجته إلى البطولة التي يصرع بها قوة خصمه ، فليست الغلبة في شأن البطل ، وإنما تطلب . منه الغلبة على النفس أحيانا كما تطلب منه الغلبة على الخصوم .
وأوسع من هؤلاء نظرة ، وأرفع نفوسا من يصفون البطولة بصفة غير الاقتحام والغلبة وهي صفة الإيثار وقلة الحرص والأنانية ، ولكننا نحب أن نقول هنا إن الأثرة والإيثار ختان تلتقيان كثيرة في أجواء العظمة وميادين « المصالح الكبيرة ؛ فمن الإيثار في هذه الأجواء والميادين ماهو أثرة بارزة ومن الأثرة ماهو إيثار محمود . وربما قيل بعد هذا إن البطولة -إذن- هي العمل الكبير الذي يغير صفحة التاريخ ويحول مجرى الحوادث ويكون له دوي في الآفاق ، نقول : لا مرة أخرى ، لأن هذا خلط بين العظمة والبطولة وهما غير سواء في المعالم والمات . فقد يعد الرجل في العظماء ولكنه لا يعد في الأبطال ، ولا خطر لأحد أن يعده في هؤلاء . وها نحن قد رأينا أن الشجاعة وحدها لاتهم في تكميل البطولة وإنما الذي يهم هو غرض الشجاعة ، وأن الغلبة كذلك لا تشهد بالبطولة وإنما الذي يشهد لها الميدان الذي تحرز فيه الغلبة ، وأن الأنانية لا تنقض البطولة ؛ لأنك قد تجعل الخير مطلب أنانيا فأنت إذن خادم نفسك وخادم الناس من طريق نفسك ، وأن العظمة ليست هي البطولة ؛ لأن العظمة صفة مشاع بين الخير والشر ، والنفع والإيذاء ، فخلاصة ما تقدم أن للبطولة سبيلا هو ذاك الذي يعنينا منها وذاك الذي يميزها من العظمة والإيثار والغلبة والشجاعة ، وكأننا نقول بعد هذا إن البطولة هي التضحية ، ثم إنها هي التضحية في سبيل الآخرين . إن البطولة والاستشهاد بمعنى واحد . فإذا قيل لك إن فلانا بطل فاسأل هل هو شهيد ؟ فإن قيل لك : نعم ، فهو البطل عظم أو صغر ، وإلا فاختر له صفة غيرها ؛ لأن الشهادة عنصر لا تقوم بطولة بغيره . وليست البطولة على هذا الشيء الادر بین الناس ، فإن كل إنسان بطل في صفة من صفاته وفي ساعة من ساعاته ، فالأم التي تسهر الليل ، وتضنی و تهلك نفسها ، وتصبر على الشظف والهوان من أجل ذاك المخلوق الضعيف الذي تسميه ابنها الذي يجهلها ولا يجزيها ، ولا يدفع الأذى عنها ، نفسه هي آيه بطولة كريمة ، ومثل تخر له الجباه وتسځوله النفوس بالعطف والتنزيه فالأبطال درجات والأبطال ضروب وشكول ، وكما يوجد البطل الصغير ، والبطل الكبير يوجد كذلك البطل الوطني ، والبطل الديني ، والبطل العامل ، والبطل المستكشف ، وهذا الذي يعيش بين الجماهير ، وذاك الذي يعكف على العزلة . والحق أن البطولة العظيمة هي الفداء العظيم ، وأن عنصر التضحية هو أن يكون الإنسان منظورة في خلائقه وسجاياه إلى غيره ، فكلما كان ذلك الغير أكبر عددا ، وأشرف قدرة وأبقى أثر ، كان عنصر التضحية أجل وأكرم وأغلى وأقوم ، وكان هذا هو مناط التفاضل بين الأبطال من جميع الدرجات والشكول . وللتضحية مقیاس آخر في باطن النفس غير ذلك المقياس الذي يظهر في خارجها ويرجع فيه إلى الناس وما يصيبون من بطولة البطل وجهاد الشهيد ، ذلك المقياس نعرفه حين نعرف التضحية ونتفق على معناها ، فهي - كما نفهمها نحن الغلبة على الخوف أو الغلبة على الأمل ، والمقياس الذي يفرق بين درجاتها وشکولها هو على هذا المقياس الذي يفرق بين المخاوف وضروب الآمال ، فمن الخوف ما يغلبه المرء ببادرة واحدة تثبت إلى رأسه ، فإذا ذلك الخوف صارع أو صريع ، وانتهت الوقعه بهذه الوثبة الواحدة فليس لها عليه كرة تعود . وقد يعرض على الإنسان مبلغ من المال ليبيع وطنا أو عرض أو حقا فيجمع قوة نفسه ، ويقهر غواية المال وفتنة السرور واللذة ، ويقول كلمته الرافضة . فضيلة هذه القوة لاتنكر ، ولكنها مع هذا فضيلة لها حدها وقيمتها ، وتعلوها - ولا شك - درجات كثيرة من الفضائل وقوى النفوس ، تعلوها مثلا تلك القوة التي تصر على الإباء ، والإغواء مملح عليها ، والحوادث تتقلب حولها ، والفاقة والغني يتعاورانها ، والليث والشدة يتناوبانها ، وتعلوها كل قوة مطمئنة تقهر التجارب والغوايات التي تطيف بها أبدا علها تجد عندها غرة للتطلع ، أو موطنا ضعيفا للتسليم إن الرجال الذين يخافون على أممهم الذل ويرجون لها العزة ، أو الذين يخافون على العالم قاطبة أن يرين عليه الرجس ويرجون له الخلاص والرفعة ، أو يخافون عليه الظلام والجهالة ويرجون له النور والمعرفة ، إن هؤلاء الذين يخافون ذلك الخوف ويرجون ذلك الرجاء ، ثم يثبتون على محنة المطامع والآلام أعواما طوا " لا تلوي بهم رهبة ، ولا ينسون الأمة والعالم في مأزق الهول ومدارج الغواية ، أولئك هم عظماء الأبطال في تاريخ بني الإنسان ، وأولئك هم شرف الآدمية ، وعزاء الحياة ، والمعنى الذي تطيب أجله الأرض وتنظر من صوبه السماء .
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات