كانت اليمن منذ أقدم عصور التاريخ مهد حضارة عريقة راقية ظلت ردحا من الزمن مثار إعجاب العالم القديم ، ومهوى أفئدته ؛ لما كانت تتمتع به من خیرات كثيرة ، وثروات وفيرة ، وأرض خصبة ، حتى أصبحت تعرف عند المؤرخين القدامی - من یونان و رومان وفرس وعرب - باسم « بلاد اليمن السعيدة » . وفي مختلف العصور التاريخية كان للإنسان اليمني دوره البارز في صنع الأحداث التاريخية ، وفي إرساء دعائم الحضارة الإنسانية . وقد أشار جرجي زيدان في كتابه « العرب قبل الإسلام إلى هذه الحضارة العريقة التي بلغتها اليمن قديما فقال : « أهل اليمن حضر من أقدم أزمانهم ، فهم أهل مدن وقصور ومحافد وهياكل وأثاث وریاش ، لبسوا الحر ، وافترشوا الحرير ، واقتنوا آنية الذهب والفضة ، واغترسوا الحدائق والبساتين » . وقد خلف وراءه عددا كبيرا من المعالم الأثرية التي تشهد بيرا وعظمة حضارته . فمدينة « براقش ) -مث- معلم أثري قديم لا يزال اسمه وموضعه معروفين اليوم . فهي موقع أثري في وادي الفرضية على الجانب الأيسر من الطريق المعبد الذي يصل طريق صنعاء مأرب بوادي الجوف ، وكان اسم المدينة قديما « يل » كما جاء ذلك في النقوش اليمنية القديمة ، غير أن الهمداني في كتابه ( الأكلیل ) لم يذكرها باسمها القديم وإنما سماها « براقش » .
ومازالت براقش إلى اليوم تحتفظ بجزء كبير من سورها المنيع ومحافده التي تزيد على خمسين محفد ، ويبلغ أقصى ارتفاع له أربعة عشر متر . ومع أن أكثر مباني هذه المدينة قد تعرض للهدم ، فإن سورها ظل صامدا إلى اليوم ، ولم يؤثر فيه تعاقب السکنی داخل المدينة ، وقد تزامن إنشاء طريق الجوف الذي يمر بالقرب من موقع المدينة ، عام 1989 م مع بداية المسح والتنقيب عن آثار تلك المدينة العتيقة ، التي أصبحت من أشهر المواقع السياحية الأثرية التي يقصدها السياح اليوم . ومن المعالم الأثرية التي استطاعت أن تبقى ماثلة إلى اليوم ، وفي موقعها الحالي نفسه ، مدينة ( ثلا ) * القريبة من شبام كوكبان ، وهي مدينة أثرية تقع في الشمال الغربي من العاصمة اليمنية صنعاء ، وتبعد عنها نحو خمسة وأربعين كيلو متر ، وتنفرد بطابعها المعماري المتميز ، ويحتضنها من الغرب حصنها الشهير الذي سمي باسمها . ويرجع تاريخ هذه المدينة إلى عهد الدولة السبئية ؛ إذ كانت تسمى قرية « الطلح » ، ثم سكنها « ثلا بن باخة بن أقيان بن حمير الأصغر ، فنسبت إليه ، وسميت باسمه . ويحيط بالمدينة سور قدیم محكم البناء ، يعرف بسور ثلا ، له سبعة أبواب ، وعليه ستة وعشرون برجا ، با ، ويعد هذا السور أحد المعالم الأثرية في المدينة ، وهو مبني من الحجر ، ولذلك يختلف عن أسوار المدن اليمنية الأخرى التي عادة ماتبني من الطين . وقد أعيد ترميم هذا السور وتجديده ، بعد أن انهارت معظم أجزائه وتصدعت بفعل تقادم الزمن وتعاقب السنين ، ولم يبق منه إلا القليل .
وهو ومن أهم المعالم الأثرية في مدينة ثلا ، حصنها الشهير المعروف بحصن حصن شاهق منيع يطاول السحاب ، إذ يقع فوق الجبل المطل على المدينة ، ويرتفع عن سطح البحر نحو ثلاثة آلاف متر ، ولا يتم الصعود إليه إلا عبر طريق مدرجة مبنية من الحجر ، أو منحوتة من أصل الجبل . وفي الحصن آثار حميرية مثل البرك ، والصهاريج المنحوتة والمبنية بالقضاض القديم الذي يتعمر مئات السنين ، وبعض الكهوف المنحوتة بدقة تظهر في جنبات الجبل على هيئة غرف ذات أبواب . وحصن ثلا عبارة عن قلعة دفاعية شديدة التحصين ، ومجهزة بمرافق مختلفة ، ولذلك اشتهر بصلابته ومناعته عقب الأحداث التي جرت فيه إبان الحكم العثماني لليمن ؛ إذ تحصن فيه المعارضون للوجود العثماني في اليمن بقيادة الإمام مطهر بن شرف الدين ، فاستعصى على القوات العثمانية اقتحامه أو الاستيلاء عليه . المدن الزاخرة بالمعالم الأثرية ، مدينة تريم التي تضرب بأطنابها في جذور التاريخ ، وهي تقع شمال شرق مدينة شبام حضرموت . وسميت بهذا الاسم نسبة إلى تريم بن حضرموت بن سبأ الأصغر » أحد ملوكها ، وأول من قام ببنائها . وقد ورد اسم هذه المدينة في النقوش اليمنية القديمة التي وجدت في بعض جنباتها . وكانت مدينة تريم محاطة بسور كبير يتألف من ثلاثة مداخل رئيسة ، وقد أزيل هذا السور ولم يبق منه غير الأثر . وفي العصر الإسلامي أصبحت مدينة تريم مرکز للعلم والمعرفة والثقافة الإسلامية في اليمن ، يشهد بذلك كثرة مساجدها التي تبلغ نحو ثلاثمائة مسجد لاتزال موجودة فيها إلى اليوم . وكان جامعها المشهور المؤسس في القرن الرابع الهجري من
أشهر تلك المراكز ؛ فقد كان طلاب العلم في اليمن ومناطق شرق أفريقيا المجاورة يرتادونه وربطه المنتشرة فيه . ومن أبرز معالم مدينة تريم اليوم مسجد المحضار الذي شيد في عام ۱۸۲۳ م . وقد تفنن البناؤون في بنائه وهندسته . وأبرز مايميزه منارته الشاهقة ، وهي أطول منارة في الإقليم ، حيث يبلغ ارتفاعها حوالي ۲۷۰ قدما ، وتتميز بكونها مبنية من اللبن وجذوع النخيل بأسلوب هندسي فريد . كل هذه المعالم الأثرية ليست سوى غيض من فيض ، وقطرة من مطرة ؛ فاليمن من أدناه إلى أقصاه يحفل بمعالم أثرية رائعة ومتميزة ، تعد سج خالد لحضارة يمنية عريقة ظلت قائمة قرون متطاولة . وجميع هذه المعالم الأثرية ترمقنا اليوم بطرف منكسر علها تجد في أوساطنا من يعتني بها ، ويدرك أهميتها .
تعليقات
إرسال تعليق