شهدت البشرية على مر العصور سلسلة متصلة من الثورات العلمية والتكنولوجية، يحدوها الأمل في كل جولة منها إلى تحقيق مزيد من الاستنارة والرفاهية والعدالة ؛ فبعد أن نجح الإنسان في صنع آلته البخارية والكهربائية لتنوب عنه عضلية، سعى إلى بناء آلة حاسبة تخفف عنه « عقلية ».
وقد شهد القرن التاسع عشر محاولات عديدة لبناء آلة حاسبة تعمل بعناصر میکانیکية من التروس والروافع.
بيد أن هذه المحاولات لم تكلل بالنجاح؛ بسبب عدم توافر الأسس العلمية، وما إن توافرت هدها العلمية، والوسيلة التكنولوجية المناسبة لبناء تلك الآلة الحاسبة حتى تحقق الحلم المنتظر في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، وخرج إلى حيز الوجود « الحاسوب الرقمي و ( ۱ ) ثمرة لا لتقاء علوم الفيزياء، والرياضيات المنطقية والهندسة الإلكترونية.
وقد ارتقت تكنولوجيا الحاسوب بصورة غير مسبوقة خلال سلسلة من النقلات النوعية، وأدى ذلك بدوره إلى ظهور شبكة الإنترنت، أحدث تجلیات ثورة تكنولوجيا المعلومات، وصنيعة الامتزاج الخصب لثلاثية : عتاد الحاسوب، والبرمجيات، وشبكات الاتصالات. والإنترنت ثورة عالمية تضاهي - إن لم تفق – الثورة الصناعية ؛ وهي عبارة عن شبكة اتصال عالمية أنشئت في أواخر الستينيات من القرن الماضي، بالولايات المتحدة الأمريكا من ضمانا للنقل الآمن للمعلومات، ولسرعة الاتصالات بين مراكز البحث الأمريكية في حال قيام الخصم السوفييتي - آنذاك – بشن حرب نووية مفاجئة على الولايات المتحدة. ولم يكن أحد يدري حين بدأ استخدام الإنترنت کشبكة اتصال بين الجامعات الأمريكية عام ۱۹۹۹ م أنها ستنمو بهذا المعدل الرهيب، وتتطور إلى کیان عالمي للمعرفة والمعلومات، والمال والتجارة، والدعاية والسياسة، والتسلية والترفيه، بالصوت والصورة الثابتة والمتحركة، وتستوعب كل أشكال التواصل بين البشر.
إن الفكرة الذهبية الكامنة وراء التطور المذهل الذي حققته شبكة الإنترنت في زمن قصير للغاية تتمثل في أن التكنولوجيا لا تحقق أهدافها إلا إذا انصهرت في الكيان المجتمعي، وأصبحت متاحة لجميع الأفراد على اختلاف أعمارهم وقدراتهم، وسبيلها إلى تحقيق ذلك فتح قنوات الاتصال إلى أقصاها. وهو ما قامت به الإنترنت.
ولا ريب في أن شبكة الإنترنت تعد اليوم إحدى العجائب العلمية المثيرة، ولذلك يصفها كثير من علماء تكنولوجيا المعلومات بأنها « شبكة الشبكات، أو الشبكة الأم التي طوت في جوفها مئات الآلاف من شبكات تبادل المعلومات، سواء أكانت عالمية، أم إقليمية، أم محلية.
إنها تلك الغابة الكثيفة من مراکز تبادل المعلومات التي تختزن وتستقبل وتبث جميع أنواع المعلومات في شتى فروع المعرفة، وفي جوانب الحياة كافة.
وعلى الرغم من كل هذه الضخامة، وتلك السطوة، فإنه لا يمكننا تجاهل حقيقة أن شبكة الإنترنت هي في جوهرها كيان طفیلي فهي تطفو فوق موارد مادية وغير مادية من شبكات، ومعدات، وبرامج، وقواعد بيانات ليست ملكا لها، بل ملكا لغيرها.
وتكمن جاذبية شبكة الإنترنت في سهولة نشر المعلومات عليها، واسترجاعها منها عند الحاجة، وفي كونها وسيلة اتصال تفاعلية تمكن المستخدم من حرية التصفح المواقعها، وإبداء رأيه، واختيار ما يريده من معلومات. ولا غرو أن تغدو الإنترنت - بهذه الخصائص والإمكانات الهائلة - نافذة الإنسان على عالمه الصاخب المضطرب، ووسيطه الجديد الذي يرى من خلاله واقعه، ويتعامل معه، ويمارس فيه عن بعد معظم أنشطته العملية والذهنية، فقد استطاعت هذه الشبكة العنكبوتية خلال مدة وجيزة من إنشائها أن تشيد عوالم وفضاءات رحبة فسيحة من المعلومات والمعارف لم تكن مطروقة من قبل، يطل الإنسان من خلالها على عالمه المترامي بكل تموجاته وأحداثه وصراعاته، وسيلته في ذلك ما تقدمه له شبكة الإنترنت من خدمات جليلة متنوعة مثل : البريد الإلكتروني، والنشر الإلكتروني، والاتصال بالهاتف عند طريق الشبكة، والمشاركة في الندوات الإلكترونية، وغير ذلك من الخدمات وإذا كانت مطبعة (جوتنبرج ) قد حولت الثقافة -مع مرور الزمن - من فاكهة، علية القوم والبلاء إلى « زاد » متوافر للطبقات المختلفة، فإن ظهور الإنترنت ووسائل النشر الإلكتروني، واتساعها الفلكي خلال أقل من عقدين من الزمان بدل هذه المعادلة غير المتكافئة؛ إذ إن هذه التقنيات الحديثة قد جعلت كل عوالم المعرفة والعلوم والنشاطات الإنسانية - حاضرها وماضيها، وحتى ملاح مستقبلها - في متناول أي إنسان، في أي ركن من أركان العالم، دون تمييز، وبصرف النظر عن أصولهم أو مشاربهم الثقافية، متى ما توافرت وسائط التقاطها المثيرة.
وعلى الرغم من الخدمات والمنافع الوفيرة التي يمكن أن تقدمها لنا شبكة الإنترنت، فإنها لا تخلو من مخاطر وأضرار جسيمة، وعلينا أن نعي فله إغفالنا أو تجاهلنا لها قد تكون باهظة للغاية.
وتكمن خطورة هذه الشبكة العنكبوتية في أنها غير خاضعة للمراقبة والتحكم، فليس هناك مؤسسة - من تتولى الإشراف عليها، بل إنه يتعذر وضعها تحت الرقابة، ولذلك تستخدم هذه الشبكة أحيانا استخدام سيئا لأغراض غير أخلاقية.
فقد دأب تجار الفاحشة على تحویل شبكة الإنترنت من حرم أكاديمي لتبادل المعلومات العلمية إلى سوق رائجة التسويق بضاعتهم الجنسية، وتدنيس أرجاء هذا الحرم بكل ما هو فاضح و مبتذل و الصور والأفلام الجنسية الهابطة.
إننا كثيرا ما نسمع عن المضمون الإباحي، والدعايات السياسية المغرضة، والسباب المقذع الذي يتعرض له بعض الساسة على شبكة الإنترنت.
كما أن مخاطر هذه الشبكة تتمثل في تحويلها إلى أداة لتشويه الحقائق، وهدم القيم، ونشر الإشاعات الكاذبة التي يراد بها الإساءة، أو التشكيك بطرف معين.
وعلى الرغم من كل هذه المخاطر والسلبيات الناجمة عن الاستخدام السيء لشبكة الإنترنت، فإن أحدا لا يملك أن يحد من هذه المخاطر والسلبيات، أو أن يحول دون الانتشار الكاسح لهذه الشبكة؛ فقد أوشكت أن تصبح جزء من نسيج الحياة العامة لكل الناس، يتعايشون معه ويألفونه، ويذوب في تفاصيل حياتهم اليومية.
إن شبكة الإنترنت سلاح ذو حدين، يتوقف استخدامها على سلوك الإنسان وأهدافه، ولذلك فإن التعامل الأمثل معها يتطلب منا أن ننظر إليها على أنها نعمة عظيمة وهبها الله لنا، وعلينا أن ننتفع بخيراتها، وأن تستغلها في تعزيز القيم والمبادئ الدينية وترسيخها بداخلنا، وفي ترقية حياتنا ومدار کنا وثقافتنا.
تعليقات
إرسال تعليق